سورة المائدة - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


السَّحْت والسحُت بسكون الحاء وضمها الحرام، سمي بذلك لأنه يسحت البركة أي يذهبها. يقال: سحته الله أي أهلكه، ويقال: أسحته، وقرئ بهما في قوله: {فيسحتكم بعذاب} أي يستأصلكم ويهلككم، ومنه قول الفرزدق:
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع *** من المال إلا مسحتاً أو مجلف
ومصدر الثلاثي سحت بفتحتين، وسحت بإسكان الحاء. وقال الفراء: أصل السحت كلب الجوع ويقال: فلان مسحوت المعدة إذا كان لا يلقى أبداً إلا خائفاً، وهو راجع لمعنى الهلاك.
الحبر: بفتح الحاء وكسرها العالم، وجمعه الأحبار. وكان أبو عبيد ينكر ذلك ويقول: هو بفتح الحاء. وقال الفراء: هو بالكسر، واختار أبو عبيد الفتح. وتسمى هذه السورة سورة الأحبار، ويقال: كعب الأحبار. والحبر بالكسر الذي يكتب به، وينسب إليه الحبري الحبار. ويقال: كتب الحبر لمكان الحبر الذي يكتب به، وسمي حبراً لتحسينه الخط وتبيينه إياه. وقيل: سمي حبراً لتأثيره في الموضع الذي يكون به من الحبار وهو الأثر.
العين: حاسة الرؤية وهي مؤنثة، وتجمع في القلة على أعين وأعيان، وفي الكثرة على عيون. وقال الشاعر:
ولكنني أغدو عليّ مفاضة *** دلاص كأعيان الجراد المنظم
ويقال للجاسوس: ذو العينين، والعين لفظ مشترك بين معان كثيرة ذكرها اللغويون. الأنف: معروف والجمع آناف وأنف وأنوف.
المهيمن: الشاهد الرقيب على الشيء الحافظ له، وهو اسم فاعل من هيمن قالوا: ولم يجيء على هذا الوزن إلا خمسة ألفاظ: هيمن، وسيطر، وبيطر، وحيمر، وبيقر، ذكر هذا الخامس الزجاجي في شرحه خطبة أدب الكاتب، ومعناه: سار من الحجاز إلى اليمن، ومن أفق إلى أفق. وهيمن بنا أصل. وذهب بعض اللغويين إلى أنّ مهيمناً اسم فاعل من أمن غيره من الخوف قال: فأصله مأمن قلبت الهمزة الثانية ياء كراهة اجتماع الهمزتين فصار مؤيمن، ثم أبدلت الهمزة الأولى هاء كما قالوا: اهراق في اراق، وهياك في إياك، وهذا تكلف لا حاجة إليه، وقد ثبت نظير هذا الوزن في ألفاظ فيكون هذا منها. وأيضاً فالهمزة في مؤمن اسم فاعل من آمن قد سقطت كراهة اجتماع الهمزتين، فلا يدعي أنها أقرت وأبدل منها. وأما ما ذهب إليه ابن قتيبة من أنه تصغير مؤمن، وأبدلت همزته هاء، فقد كتب إليه أبو العباس المبرد يحذره من هذا القول. واعلم أنّ أسماء الله تعالى لا تصغر. الشرعة: السنة والطريقة شرع يشرع شرعاً أي سنّ، والشارع الطريق الأعظم، ومنزل شارع إذا كان بابه قد شرع إلى طريق نافذ. المنهاج والمنهج: الطريق الواضح، ونهج الأمر استبان، ونهجت الطريق أبنته وأوضحته، ونهجت الطريق سلكته.
{يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم} روي عن أبي هريرة وابن عباس وجماعة: أن سبب نزولها أنّ يهودياً زنى بيهودية، قيل: بالمدينة.
وقيل: بغيرها من أرض الحجاز، فسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم وطمعوا أن يكون غير الرجم حدهما، وكان في التوراة رجم، فأنكروا ذلك أن يكون في التوراة وافتضحوا إذ أحضروها، وحكم الرسول فيهما بالرجم وأنفذه. وقال قتادة: السبب أنّ بني النضير كانوا إذا غزوا بني قريظة، فإن قتل قرظي نضيرياً قتل به، أو نضيري قرظياً أعطى الدية. وقيل: كانت دية القرظي على نصف دية النضيري، فلما جاء الرسول المدينة طلبت قريظة الاستواء لأنهما ابناء عم، وطلبت الحكومة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت بنو النضير: إنْ حكم بما نحن عليه فخذوه، وإلا فاحذروا. وقال السدي: نزلت في رجل من الأنصار وهذا بعيد من مساق الآية. وذكروا أن هذا الرجل هو أبو لبابة بن عبد المنذر، أشارت إليه قريظة يوم حصرهم علام ينزل من الحكم، فأشار إلى حلقه بمعنى أنه الذبح. وقال الشعبي: نزلت في قوم من اليهود قتل واحد منهم آخر، فكلفوا رجلاً من المسلمين أن يسأل الرسول قالوا: فإنْ أفتى بالدية قبلنا، وإن أفتى بالقتل لم نقبل. وهذا نحو من قول قتادة في النضير وقريظة.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما بين أحكام الحرابة والسرقة، وكان في ذكر المحاربين أنهم يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً، أمره تعالى أن لا يحزن ولا يهتم بأمر المنافقين، وأمر اليهود من تعنتهم وتربصهم به وبمن معه الدوائر ونصبهم له حبائل المكروه، وما يحدث لهم من الفساد في الأرض. ونصب المحاربة لله ولرسوله وغير ذلك من الرذائل الصادرة عنهم. ونداؤه تعالى له: يا أيها الرسول هنا، وفي {يا أيها الرسول بلغ} ويا أيها النبي في مواضع تشريف وتعظيم وتفخيم لقدره، ونادى غيره من الأنبياء باسمه فقال: {يا آدم اسكن} و{يا نوح اهبط} {يا ابراهيم قد صدّقت الرؤيا} {يا موسى إني اصطفيتك} {يا عيسى إني متوفيك} {يا يحيى خذ الكتاب} وقال مجاهد وعبد الله بن كثير: من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، هم اليهود المنافقون، وسماعون للكذب هم اليهود. والمعنى على هذا: لا تهتم بمسارعة المنافقين في الكفر واليهود بإظهار ما يلوح لهم من آثار الكفر وهو كيدهم للإسلام وأهله، فإنّ ناصرك عليهم ويقال: أسرع فيه السبب، وأسرع فيه الفساد، إذا وقع فيه سريعاً. ومسارعتهم في الكفر وقوعهم وتهافتهم فيه. أسرع شيء إذا وجدوا فرصة لم يخطئوها، وتكون من الأولى والثانية على هذا تنبيهاً وتقسيماً للذين يسارعون في الكفر، ويكون سماعون خبر مبتدأ محذوف أي: هم سماعون، والضمير عائد على المنافقين وعلى اليهود. ويدل على هذا المعنى قراءة الضحاك: سماعين، وانتصابه على الذم نحو قوله:
أقارع عوف لا أحاول غيرها *** وجوه قرود تبتغي من تخادع
ويجوز أن يكون: {ومن الذين هادوا} استئنافاً، وسماعون مبتدأ وهم اليهود، وبأفواههم متعلق بقالوا لا بآمنا والمعنى: أنهم لم يجاوز قولهم أفواههم، إنما نطقوا بالإيمان خاصة دون اعتقاد. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون المعنى: لا يحزنك المسارعون في الكفر من اليهود، وصفهم بأنهم قالوا: آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم إلزاماً منهم ذلك من حيث حرفوا توراتهم وبدلوا أحكامها، فهم يقولون بأفواههم: نحن مؤمنون بالتوراة وبموسى، وقلوبهم غير مؤمنة من حيث بدلوا وجحدوا ما فيها من نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما ينكرونه. ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى بعد هذا {وما أولئك بالمؤمنين} ويجيء على هذا التأويل قوله: من الذين قالوا كأنه قال: ومنهم، ولكنْ صرّح بذكر اليهود من حيث الطائفة السماعة غير الطائفة التي تبدّل التوراة على علم منها انتهى. وهو احتمال بعيد متكلف، وسماعون من صفات المبالغة، ولا يراد به حقيقة السماع إلا إن كان للكذب مفعولاً من أجله، ويكون المعنى: إنهم سماعون منك أقوالك من أجل أن يكذبوا عليك، وينقلون حديثك، ويزيدون مع الكلمة أضعافها كذباً. وإن كان للكذب مفعولاً به لقوله: سماعون، وعدى باللام على سبيل التقوية للعامل، فمعنى السماع هنا قبولهم ما يفتريه أحبارهم ويختلقونه من الكذب على الله وتحريف كتابه من قولهم: الملك يسمع كلام فلان، ومنه «سمع الله لمن حمده» وتقدم ذكر الخلاف في قراءة يحزنك ثلاثياً ورباعياً. وقرأ السلمي: يسرعون بغير ألف من أسرع. وقرأ الحسن وعيسى بن عمر: للكذب بكسر الكاف وسكون الذال. وقرأ زيد بن عليّ: الكذب بضم الكاف والذال جمع كذوب، نحو صبور وصبر، أي: سماعون للكذب الكذب.
{سماعون لقوم آخرين لم يأتوك} فيحتمل أن يكون المعنى: سماعون لكذب قوم آخرين لم يأتوك أي كذبهم، والذين لم يأتوه يهود فدك. وقيل: يهود خيبر. وقيل: أهل الرأيين. وقيل: أهل الخصام في القتل والدية. ويحتمل أن يكون المعنى: سماعون لأجل قوم آخرين، أي هم عيون لهم وجواسيس يسمعون منك وينقلون لقوم آخرين، وهذا الوصف يمكن أن يتصف به المنافقون، ويهود المدينة. وقيل: السماعون بنو قريظة، والقوم الآخرون يهود خيبر. وقيل لسفيان بن عيينة: هل جرى ذكر الجاسوس في كتاب الله؟ فقال: نعم. وتلا هذه الآية سماعون لقوم آخرين، لم يأتوك: صفة لقوم آخرين. ومعنى لم يأتوك: لم يصلوا إلى مجلسك وتجافوا عنك لما فرط منهم من شدّة العداوة والبغضاء، فعلى هذا الظاهر أن المعنى: هم قائلون من الأحبار كذبهم وافتراؤهم، ومن أولئك المفرطين في العداوة الذين لا يقدرون أن ينظروا إليك.
{يحرّفون الكلم من بعض مواضعه} قرئ الكلم بكسر الكاف وسكون اللام أي: يزيلونه ويميلونه عن مواضعه التي وضعها الله فيها.
قال ابن عباس والجمهور: هي حدود الله في التوراة، وذلك أنهم غيروا الرجم أي: وضعوا الجلد مكان الرجم. وقال الحسن: يغيرون ما يسمعون من الرسول عليه السلام بالكذب عليه. وقيل: بإخفاء صفة الرسول. وقيل: بإسقاط القود بعد استحقاقه. وقيل: بسوء التأويل. قال الطبري: المعنى يحرفون حكم الكلام، فحذف للعلم به انتهى. ويحتمل أن يكون هذا وصفاً لليهود فقط، ويحتمل أن يكون وصفاً لهم وللمنافقين فيما يحرفونه من الأقوال عند كذبهم، لأن مبادئ كذبهم يكون من أشياء قيلت وفعلت، وهذا هو الكذب الذي يقرب قبوله. ومعنى من بعد مواضعه: قال الزجاج من بعد أن وضعه الله مواضعه، فأحلّ حلاله وحرّم حرامه.
{يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه} الإشارة بهذا قيل: إلى التحميم والجلد في الزنا. وقيل: إلى قبول الدية في أمر القتل. وقيل: على إبقاء عزة النضير على قريظة، وهذا بحسب الاختلاف المتقدم في سبب النزول. وقال الزمخشري: إن أوتيتم، هذا المحرّف المزال عن مواضعه فخذوه واعلموا أنه الحق، واعملوا به انتهى. وهو راجع لواحد مما ذكرناه، والفاعل المحذوف هو الرسول أي: إن أتاكم الرسول هذا.
{وإن لم تؤتوه فاحذروا} أي: وإنْ أفتاكم محمد بخلافه فاحذروا وإياكم من قبوله فهو الباطل والضلال. وقيل: فاحذروا أن تعلموه بقوله السديد. وقيل: أن تطلعوه على ما في التوراة فيأخذكم بالعمل به. وقيل: فاحذروا أن تسألوه بعدها، والظاهر الأول لأنه مقابل لقوله: فخذوه. فالمعنى: وإن لم تؤتوه وأتاكم بغيره فاحذروا قبوله.
{ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً} قال الحسن وقتادة: فتنته أي عذابه بالنار. ومنه يوم هم على النار يفتنون أي يعذبون. وقال الزجاج: فضيحته. وقيل: اختباره لما يظهر به أمره. وقيل: إهلاكه. وقال ابن عباس ومجاهد: كفره وإضلاله، يقال: فتنه عن دينه صرفه عنه، وأصله فلن يقدر على دفع ما يريد الله منه. وقال الزمخشري: ومن يرد الله فتنته تركه مفتوناً وخذلانه، فلن تستطيع له من لطف الله وتوفيقه شيئاً انتهى. وهذا على طريقة الاعتزال. وهذه الجملة جاءت تسلية للرسول وتخفيفاً عنه من ثقل حزنه على مسارعتهم في الكفر. وقطعاً لرجائه من فلاحهم.
{أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم} أي سبق لهم في علم الله ذلك، وأن يكونوا مدنسين بالكفر. وفي هذا وما قبله ردّ على القدرية والمعتزلة. وقال الزمخشري: أولئك الذين لم يرد الله أن يمنحهم من ألطافه ما يطهر به قلوبهم، لأنهم ليسوا من أهلها لعلمه أنها لا تنفع ولا تنجع فيها. إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم انتهى. وهو على مذهبه الاعتزالي.
{لهم في الدنيا خزي} أي ذل وفضيحة. فخزي المنافقين بهتك سترهم وخوفهم من القتل إن اطلع على كفرهم المسلمون، وخزي اليهود تمسكنهم وضرب الجزية عليهم، وكونهم في أقطار الأرض تحت ذمّة غيرهم وفي إيالته.
وقال مقاتل: خزي قريظة بقتلهم وسبيهم، وخزي بني النضير بإجلائهم.
{ولهم في الآخرة عذاب عظيم} وصف بالعظم لتزايده فلا انقضاء له، أو لتزايد ألمه أو لهما.
{سماعون للكذب أكالون للسحت} قال الحسن: يسمعون الكلام ممن يكذب عندهم في دعواه فيأتيهم برشوة فيأخذونها. وقال أبو سليمان: هم اليهود ويسمعون الكذب، وهو قول بعضهم لبعض: محمد كاذب ليس بنبي، وليس في التوراة الرجم، وهم يعلمون كذبهم. وقيل: الكذب هنا شهادة الزور انتهى. وهذا الوصف إن كان قوله أوّلاً: سماعون للكذب، وصفاً لبني إسرائيل.
وتقدم أن السحت المال الحرام. واختلف في المراد به هنا، فعن ابن مسعود: أنه الرشوة في الحكم، ومهر البغي، وحلوان الكاهن، وثمن الكلب، والنرد، والخمر، والخنزير، والميتة، والدم، وعسب الفحل، وأجرة النائحة والمغنية، والساحر، وأجر مصوّر التماثيل، وهدية الشفاعة. قالوا وسمي سحتاً المال الحرام لأنه يسحت الطاعات أو بركة المال أو الدين أو المروءة وعن ابن مسعود ومسروق: أن المال المأخوذ على الشفاعة سحت. وعن الحسن: أنّ ما أكل الرجل من مال من له عليه دين سحت. وقيل لعبد الله: كنا نرى أنه ما أخذ على الحكم يعنون الرشا، قال: ذلك كفر، قال تعالى {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}. وقال أبو حنيفة: إذا ارتشى الحاكم يعزل، وفي الحديث: «كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به» وقال علي وأبو هريرة: كسب الحجام سحت، يعني أنه يذهب المروءة، وما ذكر في معنى السحت فهو من أمثلة المال الذي لا يحل كسبه.
ومن أعظم السحت الرشوة في الحكم، وهي المشار إليها في الآية. كان اليهود يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام. وعن الحسن: كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه أحدهم برشوة جعلها في كمه فأراه إياها، وتكلم بحاجته، فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه، فيأكل الرشوة ويسمع الكذب. وقرأ النحويان وابن كثير: السحت بضمتين. وقرأ باقي السبعة: بإسكان الحاء. وزيد بن علي وخارجة بن مصعب عن نافع: بفتح السين وإسكان الحاء، وقرئ بفتحتين. وقرأ عبيد بن عمير: بكسر السين وإسكان الحاء، فبالضم والكسر والفتحتين اسم المسحوت كالدهن والرّعي والنبض، وبالفتح والسكون مصدر أريد به المفعول كالصيد بمعنى المصيد، أو سكنت الحاء طلباً للخفة.
{فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} أي فإن جاؤوك للحكم بينهم فأنت مخير بين أن تحكم، أو تعرض. والظاهر بقاء هذا الحكم من التخيير لحكام المسلمين. وعن عطاء، والنخعي، والشعبي، وقتادة، والأصم، وأبي مسلم، وأبي ثور: أنهم إذا ارتفعوا إلى حكام المسلمين، فإن شاؤوا حكموا وإن شاؤوا أعرضوا.
وقال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والحسن، وعطاء الخراساني، وعمر بن عبد العزيز، والزهري: التخيير منسوخ بقوله: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} فإذا جاؤوا فليس للإمام أن يردهم إلى أحكامهم. والمعنى عند غيرهم: وأن احكم بينهم بما أنزل الله إذا اخترت الحكم بينهم دون الإعراض عنهم. وعن أبي حنيفة: إنْ احتكموا إلينا حملوا على حكم الإسلام، وأقيم الحدّ على الزاني بمسلمة، والسارق من مسلم. وأما أهل الحجاز فلا يرون إقامة الحدود عليهم، يذهبون إلى أنهم قد صولحوا على شركهم وهو أعظم من الحدود، ويقولون: إنّ رجم اليهوديين كان قبل نزول الجزية. وقال ابن عطية: الأمة مجمعة على أنّ حاكم المسلمين يحكم بين أهل الذمة في التظالم، ويتسلط عليهم في تغيير، ومن ذلك حبس السلع المبيعة وغصب المال. فأما نوازل الأحكام التي لا تظالم فيها، وإنما هي دعاء ومحتملة، فهي التي يخير فيها الحاكم انتهى. وفيه بعض تلخيص. وظاهر الآية يدل على مجيء المتداعيين إلى الحاكم، ورضاهما بحكمه كاف في الإقدام على الحكم بينهما. وقال ابن القاسم: لا بد مع ذلك من رضا الأساقفة والرهبان، فإنْ رضي الأساقفة دون الخصمين، أو الخصمان دون الأساقفة، فليس له أن يحكم. وقال ابن عباس، ومجاهد، والحسن، والزهري، وغيرهم: فإن جاؤوك يعني أهل نازلة الزانيين، ثم الآية تتناول سائر النوازل. وقال قوم: في قتيل اليهود من قريظة والنضير. وقال قوم: التخيير مختص بالمعاهدين لازمة لهم. ومذهب الشافعي: أنه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه، لأنّ في إمضاء حكم الإسلام عليهم صغاراً لهم، فأما المعاهدون الذين لهم مع المسلمين عهد إلى مدة فليس بواجب عليه أن يحكم بينهم، بل يتخير في ذلك، وهو التخيير الذي في الآية وهو مخصوص بالمعاهدين. وروي عن الشافعي مثل قول عطاء والنخعي.
{وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً} أي أنت آمن من ضررهم، منصور عليهم على كل حال. وكانوا يتحاكمون إليه لطلب الأيسر والأهون عليهم، فالجلد مكان الرجم، فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة بينهم شق عليهم وتكرهوا إعراضه عنهم، وكانوا خلقاء بأن يعادوه ويضروه، فأمنه الله منهم، وأخبره أنهم ليسوا قادرين على شيء من ضرره.
{وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} أي: وإن أردت الحكم بالقسط بالعدل كما تحكم بين المسلمين. والقسط: هو المبين في قوله {وأن احكم بينهم بما أنزل الله}، وهو صلى الله عليه وسلم لا يحكم إلا بالقسط، فهو أمر معناه الخبر أي: فحكمك لا يقع إلا بالعدل، لأنك معصوم من اتباع الهوى.
{إن الله يحب المقسطين} وأنت سيدهم، فمحبته إياك أعظم من محبته إياهم. وفيه حث على توخي القسط وإيثاره، حيث ذكر الله أنه يحب من اتصف به.
{وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله} هذا تعجيب من تحكيمهم إياه مع أنهم لا يؤمنون به ولا بكتابه.
وفي كتابهم الذي يدعون الإيمان به حكم الله تعالى نص جلي، فليسوا قاصدين حكم الله حقيقة، وإنما قصدوا بذلك أن يكون عنده صلى الله عليه وسلم رخصة فيما تحاكموا إليه فيه اتباعاً لأهوائهم، وأنهماكاً في شهواتهم. ومن عدل عن حكم الله في كتابه الذي يدعي أنه مؤمن به إلى تحكيم من لا يؤمن به ولا بكتابه، فهو لا يحكم إلا رغبة فيما يقصده من مخالفة كتابه. وإذا خالفوا كتابهم لكونه ليس على وفق شهواتهم، فلأنْ يخالفوك إذا لم توافقهم أولى وأحرى. والواو في: وعندهم، للحال وعندهم التوراة مبتدأ وخبر، وقوله: فيها. حكم الله، حال من التوراة، وارتفع حكم على الفاعلية بالجار والمجرور أي: كائناً فيها حكم الله. ويجوز أن يكون فيها في موضع رفع خبراً عن التوراة كقولك: وعندهم التوراة ناطقة بحكم الله. أو لا محل له، وتكون جملة مبينة، لأن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم كما تقول: عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب فما تصنع بغيره؟ وهذان الإعرابان للزمخشري.
{ثم يتولون من بعد ذلك} أي من بعد تحكيمك الموافق لما في كتابهم، لأن التعجيب من التحكيم إنما كان بعد صدوره منهم، ثم تولوا عنه ولم يرضوا به. وقال ابن عطية: من بعد ذلك، أي من بعد حكم الله في التوراة وما أشبهه من الأمور التي خالفوا فيها أمر الله انتهى. وهذه الجملة مستأنفة أي: ثم هم يتولون بعد. وهي أخبار من الله بتوليهم على عادتهم في أنهم إذا وضح لهم الحق أعرضوا عنه وتولوا. قال الزمخشري: (فإن قلت): علام عطف ثم يتولون؟ (قلت): على يحكمونك انتهى. ويكون إذ ذاك داخلاً في الاستفهام الذي يراد به التعجب، أي ثمّ كيف يتولون بعد ذلك، فيكون قد تعجب من تحكيمهم إياه، ثم من توليهم عنه. أي: كيف رضوا به ثم سخطوه؟.
{وما أولئك بالمؤمنين} ظاهره نفي الإيم


{وأن احكم بينهم بما أنزل الله} قال ابن عباس: قال بعض اليهود لبعض منهم ابن صوريا وشاس بن قيس وكعب بن أسيد: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه فقالوا: يا محمد قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم، وإنْ اتبعناك اتبعك كل اليهود، وبيننا وبين قوم خصومة فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونؤمن بك، فأبى ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت. وقال مقاتل: قال جماعة من بني النضير له: هل لك أن تحكم لنا على أصحابنا بني قريظة في أمر الدماء كما كنا عليه من قبل، ونبايعك؟ فنزلت.
قال القاضي أبو يعلى: وليس هذه الآية تكراراً لما تقدم، وإنما نزلت في شيئين مختلفين: أحدهما: شأن الرجم، والآخر التسوية انتهى. وهذه الآية ناسخة عند قوم للتخيير الذي في قوله: {أو أعرض عنهم} وتقدم ذكر ذلك وأجازوا في: وأن احكم، أن يكون في موضع نصب عطفاً على الكتاب، أي: والحكم. وفي موضع جر عطفاً على بالحق، وفي موضع رفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر مؤخراً، والتقدير: وحكمك بما أنزل أنزل الله أمرنا وقولنا. أو مقدماً والتقدير: ومن الواجب حكمك بما أنزل الله. وقيل: أنْ تفسيرية، وأبعد ذلك من أجل الواو، ولا يصح ذلك بأن يقدر قبل فعل الأمر فعلاً محذوفاً فيه معنى القول أي: وأمرناك أن احكم، لأنه يلزم من ذلك حذف الجملة المفسرة بأن وما بعدها، وذلك لا يحفظ من كلام العرب. وقُرئ بضم النون من: وأن احكم، اتباعاً لحركة الكاف، وبكسرها على أصل التقاء الساكنين. والضمير في بينهم عائد على اليهود. وقيل: على جميع المتحاكمين.
{ولا تتبع أهوائهم} تقدم شرح هذه الجملة.
{واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} أي يستزلوك. وحذره عن ذلك، وإنْ كان مأيوساً من فتنتهم إياه لقطع أطماعهم، وقال: عن بعض، لأن الذي سألوه هو أمر جزئي، سألوه أن يقضي لهم فيه على خصومهم فأبى منه. وموضع أن يفتنوك نصب على البدل، ويكون مفعولاً من أجله.
{فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم} أي فإنْ تولوا عن الحكم بما أنزل الله وأرادوا غيره. ومعنى: أن يصيبهم ببعض ذنوبهم، أن يعذبهم ببعض آثامهم. وأبهم بعضاً هنا ويعني به والله أعلم التولي عن حكم الله وإرادة خلافه، فوضع ببعض ذنوبهم موضع ذلك، وأراد أنهم ذوو ذنوب جمة كثيرة لا العدد، وهذا الذنب مع عظمه وهذا الإبهام فيه تعظيم التولي، وفرط إسرافهم في ارتكابه، ونظيره قول لبيد:
أو يرتبط بعض النفوس حمامها ***
أراد نفسه وقصد تفخيم شأنها بهذا الإبهام، كأنه قال: نفساً كبيرة أو نفساً أي نفس، وهذا الوعد بالمصيبة قد أنجزه له تعالى بقصة بني قينقاع وقصة قريظة والنضير وإجلاء عمر رضي الله عنه أهل خيبر وفدك وغيرهم.
قال ابن عطية: وخصص إصابتهم ببعض الذنوب، لأن هذا الوعيد إنما هو في الدنيا وذنوبهم فيها نوعان: نوع يخصهم كشرب الخمر وزناهم ورشاهم، ونوع يتعدى إلى النبي والمؤمنين كممالأتهم للكفار، وأقوالهم في الدين، فهذا النوع هو الذي توعدهم الله به في الدنيا، وإنما يعذبون بكل الذنوب في الآخرة. وقال ابن عطية أيضاً: فإن تولوا قبله محذوف من الكلام يدل عليه الظاهر تقديره: لا تتبع واحذر، فإن حكموك مع ذلك واستقاموا فنعما ذلك، وإن تولوا فاعلم. ويحسن أن يقدر هذا المحذوف المعادل لقوله: لفاسقون انتهى. ولا يحتاج إلى تقدير هذا.
{وإن كثيراً من الناس لفاسقون} أي متمردون مبالغون في الخروج عن طاعة الله. وقال ابن عباس: المراد بالفسق هنا الكفر. وقال مقاتل: المعاصي. وقال ابن زيد: الكذب وظاهر الناس العموم، وإنْ كان السياق في اليهود، وجاء بلفظ العموم لينبه من سواهم. ويحتمل أن يكون الناس للعهد، وهم اليهود الذين تقدم ذكرهم.
{أفحكم الجاهلية يبغون} هذا استفهام معناه الإنكار على اليهود، حيث هم أهل كتاب وتحليل وتحريم من الله تعالى، ومع ذلك يعرضون عن حكم الله ويختارون عليه حكم الجاهلية، وهو بمجرد الهوى من مراعاة الأشرف عندهم، وترجيح الفاضل عندهم في الدنيا على المفضول، وفي هذا أشد النعي عليهم حيث تركوا الحكم الإلهي بحكم الهوى والجهل. وقال الحسن: هو عام في كل من يبتغي غير حكم الله. والحكم حكمان: حكم بعلم، فهو حكم الله. وحكم بجهل فهو حكم الشيطان. وسئل عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض فقرأ هذه الآية. وقرأ الجمهور: أفحكمَ بنصب الميم، وهو مفعول يبغون. وقرأ السلمي، وابن وثاب، وأبو رجاء، والأعرج: أفحكمُ الجاهلية برفع الميم على الابتداء. والظاهر أن الخبر هو قوله: يبغون، وحسن حذف الضمير قليلاً في هذه القراءة كون الجملة فاصلة. وقال ابن مجاهد: هذا خطأ. قال ابن جني: وليس كذلك، وجد غيره أقوى منه وقد جاء في الشعر انتهى.
وفي هذه المسألة خلاف بين النحويين. وبعضهم يجيز حذف هذا الضمير في الكلام، وبعضهم يخصه بالشعر، وبعضهم يفصل. وهذه المذاهب ودلائلها مذكورة في علم النحو. وقال الزمخشري: وإسقاط الراجع عنه كإسقاطه عن الصلة في{أهذا الذي بعث الله رسولاً}وعن الصفة في: الناس رجلان، رجل أهنت ورجل أكرمت. وعن الحال في: مررت بهند تضرب زيداً انتهى. فإنْ كان جعل الإسقاط فيه مثل الإسقاط في الجواز والحسن، فليس كما ذكر عند البصريين، بل حذفه من الصلة بشروط الحذف فصيح، وحذفه من الصفة قليل، وحذفه من الخبر مخصوص بالشعر، أو في نادر. وإن كان شبهه به من حيث مطلق الإسقاط فهو صحيح.
وقال ابن عطية: وإنما تتجه القراءة على أن يكون التقدير: أفحكم الجاهلية حكم تبغون، فلا تجعل تبغون خبراً بل تجعل صفة خبر محذوف، ونظيره: {من الذين يحرفون} تقديره قوم يحرفون انتهى. وهو توجيه ممكن. وقرأ قتادة والأعمش: أفحكَمَ بفتح الحاء والكاف والميم، وهو جنس لا يراد به واحد كأنه قيل: أحكام الجاهلية وهي إشارة إلى الكهان الذين كانوا يأخذون الحلوان وهي رشا الكهان، ويحكمون لهم بحسبه وبحسب الشهوات، أرادوا بسفههم أن يكون خاتم النبيين حكماً كأولئك الحكام. وقرأ الجمهور: يبغون بالياء على نسق الغيبة المتقدّمة. وقرأ ابن عامر بالتاء على الخطاب، وفيه مواجهتهم بالإنكار والرّدع والزجر، وليس ذلك في الغيبة، فهذه حكمة الالتفات والخطاب ليهود قريظة والنضير.
{ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون} أي لا أحد أحسن من الله حكماً. وتقدّم {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} فجاءت هذه الآية مشيرة لهذا المعنى والمعنى: أن حكم الله هو الغاية في الحسن وفي العدل. وهو استفهام معناه التقرير، ويتضمن شيئاً من التكبر عليهم. واللام في: لقوم يوقنون، للبيان فتتعلق بمحذوف أي: في هيت لك وسقياً لك أي: هذا الخطاب. وهذا الاستفهام لقوم يوقنون قاله الزمخشري. وقال ابن عطية: وحسن دخول اللام في لقوم من حيث المعنى يبين ذلك، ويظهر لقوم يوقنون. وقيل: اللام بمعنى عند أي عند قوم يوقنون، وهذا ضعيف. وقيل: تتعلق بقوله: حكماً، أي أن أحكم الله للمؤمن على الكافر. ومتعلق يوقنون محذوف تقديره: يوقنون بالقرآن قاله ابن عباس. وقيل: يوقنون بالله تعالى قاله مقاتل. وقال الزجاج: يوقنون يثبتون عهد الله تعالى في حكمه، وخصوا بالذكر لسرعة إذعانهم لحكم الله وأنهم هم الذين يعرفون أن لا أعدل منه ولا أحسن حكماً.


الدائرة: واحدة الدوائر، وهي صروف الدهر، ودوله، ونوازله. وقال الشاعر:
ويعلم أن الدائرات تدور ***
اللعب معروف وهو مصدر على غير قياس، وفعله لعب يلعب. الإطفاء: الإخماد حتى لا يبقى أثر. الإفك: بفتح الهمزة مصدر أفكه يأفكه، أي قلبه وصرفه. ومنه: {أجئتنا لتأفكنا} يؤفك عنه من أفك. قال عروة بن أذينة:
إن كنت عن أحسن المروءة مأ *** فوكاً ففي آخرين قد أفكوا
وقال أبو زيد: المأفوك المأفون، وهو الضعيف العقل. وقال أبو عبيدة: رجل مأفوك لا يصيب خيراً، وائتفكت البلدة بأهلها انقلبت، والمؤتفكات مدائن قوم لوط عليه السلام قلبها الله تعالى. والمؤتفكات أيضاً الرياح التي تختلف مهابّها.
{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض} قال الزهري وغيره: سبب نزولها ولها قصة عبد الله بن أبيّ واستمساكه بحلف يهود، وتبرؤ عبادة بن الصامت من حلفهم عند انقضاء بدر وعبادة، في قصة فيها طول هذا ملخصها. وقال عكرمة: سببها أمر أبي لبابة بن عبد المنذر وإشارته إلى قريظة أنه الذبح حين استفهموه عن رأيه في نزولهم عن حكم سعد بن معاذ. وقال السدّي: لما نزل بالمسلمين أمر أحد فزع منهم قوم، وقال بعضهم لبعض: نأخذ من اليهود عهداً يعاضدونا إن ألمت بنا قاصمة من قريش أو سائر العرب. وقال آخرون: بل نلحق بالنصارى فنزلت. وقيل: هي عامّة في المنافقين أظهروا الإيمان وظاهروا اليهود والنصارى.
نهى تعالى المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى ينصرونهم ويستنصرون بهم، ويعاشرونهم معاشرة المؤمنين. وقراءة أبيّ وابن عباس: أرباباً مكان أولياء، بعضهم أولياء بعض جملة معطوفة من النهي مشعرة بعلة الولاية وهو اجتماعهم في الكفر والممالأة على المؤمنين، والظاهر أن الضمير في بعضهم يعود على اليهود والنصارى. وقيل: المعنى على أن ثمّ محذوفاً والتقدير: بعض اليهود أولياء بعض، وبعض النصارى أولياء بعض، لأن اليهود ليسوا أولياء النصارى، ولا النصارى أولياء اليهود، ويمكن أن يقال: جمعهم في الضمير على سبيل الإجمال، ودل ما بينهم من المعاداة على التفصيل، وأنّ بعض اليهود لا يتولى إلا جنسه، وبعض النصارى كذلك. قال الحوفي: هي جملة من مبتدأ وخبر في موضع النعت لأولياء، والظاهر أنها جملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب.
{ومن يتولهم منكم فإنه منهم} قال ابن عباس: فإنه منهم في حكم الكفر، أي ومن يتولهم في الدين. وقال غيره: ومن يتولهم في الدنيا فإنه منهم في الآخرة. وقيل: ومن يتولهم منكم في العهد فإنه منهم في مخالفة الأمر. وهذا تشديد عظيم في الانتفاء من أهل الكفر، وترك موالاتهم، وإنحاء عبد الله بن أبي ومن اتصف بصفته. ولا يدخل في الموالاة لليهود والنصارى من غير مصافاة، ومن تولاهم بأفعاله دون معتقده ولا إخلال بإيمان فهو منهم في المقت والمذمّة، ومن تولاهم في المعتقد فهو منهم في الكفر.
وقد استدل بهذا ابن عباس وغيره على جواز أكل ذبائح نصارى العرب، وقال: من دخل في دين قوم فهو منهم. وسئل ابن سيرين عن رجل يبيع داره لنصراني ليتخذها كنيسة: فتلا هذه الآية. وفي الحديث: «لا تراءى ناراهما» وقال عمر لأبي موسى في كاتبه النصراني: لا تكرموهم إذ أهانهم الله، ولا تأمنوهم إذ خوّنهم الله، ولا تدنوهم إذ أقصاهم الله تعالى. وقال له أبو موسى لا قوام للصرة إلا به، فقال عمر: مات النصراني والسلام.
{إن الله لا يهدي القوم الظالمين} ظاهره العموم والمعنى على الخصوص، أي: من سبق في علم الله أنه لا يهتدي. قال ابن عطية: أو يراد التخصيص مدة الظلم والتلبس بفعله، فإن الظلم لا هدى فيه، والظالم من حيث هو ظالم ليس بمهتد في ظلمه. وقال أبو العالية: الظالم من أبي أن يقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وقال ابن إسحاق: أراد المنافقين. وقيل: الظالم هو الذي وضع الولاية في غير موضعها. وقال الزمخشري قريباً من هذا، قال: يعني الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفر يمنعهم الله ألطافه، ويخذلهم مقتاً لهم انتهى. وهو على طريقة الاعتزال.
{فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، والذين في قلوبهم مرض عبد الله بن أبيّ ومن تبعه من المنافقين، أو من مؤمني الخزرج متابعة جهالة وعصبية، فهذا الصنف له حصة من مرض القلب قاله ابن عطية. ومعنى يسارعون فيهم: أي في موالاتهم ويرغبون فيها. وتقدّم الكلام في المرض في أول البقرة.
وقرأ ابراهيم بن وثاب: فيرى بالياء من تحت، والفاعل ضمير يعود على الله، أو الرأي. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون الذين فاعل ترى، والمعنى: أن يسارعوا، فحذفت أن إيجازاً انتهى. وهذا ضعيف لأنّ حذف إنْ من نحو هذا لا ينقاس. وقرأ قتادة والأعمش: يسرعون بغير ألف من أسرع، وفترى أن كانت من رؤية العين كان يسارعون حالاً، أو من رؤية القلب ففي موضع المفعول الثاني، يقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة، هذا محفوظ من قول عبد الله بن أُبيّ، وقاله معه منافقون كثيرون. قال ابن عباس: معناه نخشى أن لا يتم أمر محمد فيدور الأمر علينا. وقيل: الدائرة من جدب وقحط. ولا يميروننا ولا يقرضوننا. وقيل: دائرة تحوج إلى يهود وإلى معونتهم.
{فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده} هذا بشارة للرسول والمؤمنين بوعده تعالى بالفتح والنصرة. قال قتادة: عنى به القضاء في هذه النوازل والفتاح الفاضي.
وقال السدّي: يعني به فتح مكة. قال ابن عطية: وظاهر الفتح في هذه الآية ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلو كلمته فيستغني عن اليهود. وقيل: فتح بلاد المشركين. وقيل: فتح قرى اليهود، يريدون قريظة والنضير وفدك وما يجري مجراهما. وقيل: الفتح الفرج، قاله ابن قتيبة. وقيل في قوله تعالى: {أو أمر من عنده} هو إجلاء بني النضير وأخذ أموالهم، لم يكن للناس فيه فعل بل طرح الله في قلوبهم الرعب فأعطوا بأيديهم من غير أن يوجف عليهم بخيل ولا ركاب، وقتل قريظة وسبي ذراريهم قاله: ابن السائب ومقاتل. وقيل: إذلالهم حتى يعطوا الجزية. وقيل: الخصب والرّخاء قاله ابن قتيبة. وقال الزجاج: إظهار أمر المنافقين وتربصهم الدوائر. وقال ابن عطية: ويظهر أنّ هذا التقسيم إنما هو لأن الفتح الموعود به هو مما ترتب على سعي النبي وأصحابه ونسب جدهم وعملهم، فوعد الله تعالى إمّا بفتح يقتضي تلك الأعمال، وإما بأمر من عنده يهلك أعداء الشرع، هو أيضاً فتح لا يقع للبشر فيه تسبب انتهى.
{فيصبحوا على ما أسرّوا في أنفسهم نادمين} أي يصيرون نادمين على ما حدثتهم أنفسهم أنّ أمر النبي لا يتم، ولا تكون الدولة لهم إذا أتى الله بالفتح أو أمر من عنده. وقيل: موالاتهم. وقرأ ابن الزبير: فتصبح الفساق جعل الفساق مكان الضمير. قال ابن عطية: وخص الإصباح بالذكر لأنّ الإنسان في ليله مفكر، فعند الصباح يرى الحالة التي اقتضاها فكره انتهى. وتقدم لنا نحو من هذا الكلام، وذكرنا أن أصبح تأتي بمعنى صار من غير اعتبار كينونة في الصباح، واتفق الحوفي وأبو البقاء على أن قوله: فيصبحوا معطوف على قوله: {أن يأتي} وهو الظاهر، ومجور ذلك هو الفاء، لأن فيها معنى التسبب، فصار نظير الذي يطير فيغضب زيد الذباب، فلو كان العطف بغير الفاء لم يصح، لأنه كان يكون معطوفاً على أن يأتي خبر لعسى، وهو خبر عن الله تعالى، والمعطوف على الخبر خبر، فيلزم أن يكون فيه رابط إن كان مما يحتاج إلى الرابط، ولا رابط هنا، فلا يجوز العطف. لكنّ الفاء انفردت من بين سائر حروف العطف بتسويغ الاكتفاء بضمير واحد فيما تضمن جملتين من صلة كما مثله، أو صفة نحو مررت برجل يبكي فيضحك عمرو، أو خبر نحو زيد يقوم فيقعد بشر. وجوز أن لا يكون معطوفاً على أن يأتي، ولكنه منصوب بإضمار أن بعد الفاء في جواب التمني، إذ عسى تمنّ وترج في حق البشر، وهذا فيه نظر.
{ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أنهم لمعكم} قال المفسرون: لما أجلى بني النضير تأسف المنافقون على فراقهم، وجعل المنافق يقول لقريبه المؤمن إذا رآه جادًّا في معاداة اليهود: هذا جزاؤهم منك طال، والله ما أشبعوا بطنك، فلما قتلت قريظة لم يطق أحد من المنافقين ستر ما في نفسه، فجعلوا يقولون: أربعمائة حصدوا في ليلة؟ فلما رأى المؤمنون ما قد ظهر من المنافقين قالوا: أهؤلاء أي المنافقون الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أنهم لمعكم؟ والمعنى: يقول بعضهم لبعض تعجباً من حالهم إذ أغلظوا بالإيمان للمؤمنين أنهم معكم، وأنهم معاضدوكم على اليهود، فلما حلّ باليهود ما حل ظهر من المنافقين ما كانوا يسرّونه من موالاة اليهود والتمالؤ على المؤمنين.
ويحتمل أن يقول المؤمنون ذلك لليهود، ويكون الخطاب في قوله: إنهم لمعكم لليهود، لأن المنافقين حلفوا لليهود بالمعاضدة والنصرة كما قال تعالى حكاية عنهم: {وإن قوتلتم لننصرنكم} فقالوا ذلك لليهود يجسرونهم على موالاة المنافقين، وأنهم لن يغنوا عنهم من الله شيئاً، ويغتبطون بما منّ الله عليهم من إخلاص الإيمان وموالاة اليهود.
وقرأ الابنان ونافع: بغير واو، كأنه جواب قائل ما يقول المؤمنون حينئذ. فقيل: يقول الذين آمنوا، وكذا هي في مصاحف أهل مكة والمدينة. وقرأ الباقون: بالواو، ونصب اللام أبو عمرو، ورفعها الكوفيون. وروى علي بن نصر عن أبي عمر: والرفع والنصب، وقالوا: وهي في مصاحف الكوفة وأهل المشرق. والواو عاطفة جملة على جملة، هذا إذا رفع اللام، ومع حذف الواو الاتصال موجود في الجملة الثانية، ذكر من الجملة السابقة إذ الذين يسارعون وقالوا: نخشى، ويصبحوا هم الذين قيل فيهم: أهؤلاء الذين أقسموا، وتارة يكتفي في الاتصال بالضمير، وتارة يؤكد بالعطف بالواو. والظاهر أنّ هذا القول هو صادر من المؤمنين عند رؤية الفتح كما قدمنا.
قيل: ويحتمل أن يكون في وقت الذين في قلوبهم مرض يقولون: {نخشى أن تصيبنا دائرة} وعندما ظهر سؤالهم في أمر بني قينقاع وسؤال عبد الله بن أبي فيهم، ونزل الرسول إياهم له، وإظهار عبد الله أن خشية الدوائر هي خوفه على المدينة ومن بها من المؤمنين، وقد علم كل مؤمن أنه كاذب في ذلك، فكان فعله ذلك موطناً أن يقول المؤمنون ذلك. وأما قراءة ويقول بالنصب، فوجهت على أنّ هذا القول لم يكن إلا عند الفتح، وأنه محمول على المعنى، فهو معطوف على أن يأتي، إذ معنى: فعسى الله أن يأتي، معنى فعسى أن يأتي الله، وهذا الذي يسميه النحويون العطف على التوهم، يكون الكلام في قالب فيقدره في قالب آخر، إذ لا يصح أن يعطف ضمير اسم الله ولا شيء منه. وأجاز ذلك أبو البقاء على تقدير ضمير محذوف أي: ويقول الذين آمنوا به، أي بالله. فهذا الضمير يصح به الربط، أو هو معطوف على أن يأتي على أن يكون أن يأتي بدلاً من اسم الله لا خبراً، فتكون عسى إذ ذاك تامة لا ناقصة، كأنك قلت: عسى أن يأتي، ويقول: أو معطوف على فيصبحوا، على أن يكون قوله: فيصبحوا منصوباً بإضمار أن جواباً لعسى، إذ فيها معنى التمني.
وقد ذكرنا أنّ في هذا الوجه نظر، أو هل هو تجري عسى في الترجي مجرى ليت في التمني؟ أم لا تجري؟ وذكر هذا الوجه ابن عطية عن أبي يعلى، وتبعه ابن الحاجب، ولم يذكر ابن الحاجب غيره. وعسى من الله واجبة فلا ترجى فيها، وكلا الوجهين قبله تخريج أبي عليّ. وخرجه النحاس على أن يكون معطوفا

1 | 2 | 3 | 4 | 5